كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن مالك رحمه الله في المدونة: إن قذف رجلًا فلما ضرب أسواطًا قذفه ثانيًا أو آخر ابتدئ الحد عليه ثمانين من حين يقذفه ولا يعتد بما مضى من السياط.
المسألة الرابة عشرة: الظاهر أن من قال لجماعة: أحدكم زان أو ابن زانية لا حد عليه لأنه لم يعين واحدًا فلم تلحق المعرة واحدًا منهم، فإن طلبوا إقامة الحد عليه جميعًا لا يحد، لأنه لم يرم واحدًا منهم بعينه، ولم يعر من أراد بكلامه. نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز، ووجهه ظاهر كما ترى. واقتصر عليه خليل في مختصرة في قوله عاطفًا على ما لا حد فيه. أو قال لجماع: أحدكم زان.
وقال ابن قدامة في المغني: واذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل، فلا حد عليه، في قول أحد من أهل العلم. وكذلك إن اختلف رجلان في شيء فقال أحدهما الكاذب: هو ابن الزانية، فلا حد عليه نص عليه أحمد، لأنه لم يعين أحدًا بالقذف، وكذلك ما أشبه هذا ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم، مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم، لم يكن عليه حد، لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه. انتهى منه.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل: أنت أزنى من فلان.
فهو قاذف لهما، وعليه حدان، لأن قوله أزنى صيغة تفضيل، ت وهي تدل على اشتراك المفضل، والمفضل عليه في أصل الفعل، إلا أن المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل: أنت وفلان زانيات، ولكنك تفوقه في الزنى، وكون هذا قذفًا لهما واضح كما ترى، وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أن يحد للمخاطب فقط، دون فلان المذكور، لا ينبغي أن يعول عليه، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول، والثاني إلا أن يعول عليه، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول، وللثاني إلا أن يريد به القذف كل ذلك لا يصح ولا ينبغي التعويل عليه، لأن صيغة أنت زانى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة، لا إشكال فيها.
وقال ابن قدامة في المغني محتجًا للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة: أنه لا حد على الثاني: ما نصه: والثاني يكون قذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظه افعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل، كقول الله تعالى: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] وقال تعالى: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} [الأنعام: 81] وقال لوط: {بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أي من أدبار الرجال، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه، ولم يعول عليه.
وحاصل الاحتجاج المذكور: أن صيغة التغضيل قد ترد مرادًا بها مطلق الوصف، لا حصول التفضيل بين شيئين، ومثل هو بكلمة: أحق أن يتبع وكلمة: أحق بالأمن، وكلمة: أطهر لكم، لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف كما هو معلوم، ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب المغني، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للتفضيل، لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقِّيِّة الاتباع أصلًا في قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي} [يونس: 35] ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة.
ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضًا قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي هين سهل عليه، وقول الشنفري:
وإن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن ** بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل

أي لم أكن بالعجل منهم وقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعز وأطول

أي عزيزة طويلة. وقول معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوْجَل ** على أيِّنا تعدو المنيَّة أول

أي لوجل. وقول الأحوص بن محمد الأنصاري:
أني لأمنحك الصدود وإنني ** قسمًا إليك مع الصدود لأمْيَلُ

أي لمائل. وقول الآخر:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي بواحد. وقال الآخر:
لعمرك إن الزبر قان لباذل ** لمعروفه عند السنين وأفضل

أي وفاضل. إلى غير ذلك من الشواهد، ولكن قدمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف، إلا لدليل خارج، أو قرينة واضحة تدل على ذلك.
وقوله له: أنت أزنى من فلان ليس هناك قرينة، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل، عن أصلها، فوجب إبقاؤها على أصلها، وحد القاذف، لكل واحد منهما والإتيان بلفظة من في قوله: أنت أزنى من فلان، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة عشر: اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى، ومن رمى أحدهما فعليه الحد، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه لم يثبت عليها زنى، ولا على ولدها أنه ابن زنى، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه.
وفي سنن أبي داود حدثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا عباد بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فجاء من أرضه عشيًا فوجد عند أهله رجلًا فرأى بعينه وسمع بأذنه الحديث وفيه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعي ولدها لأب، ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد إلى آخر الحديث. وفي هذا الحديث: التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد.
واعلم أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة: لست لأبيك الذي لاعن أمك، فعليه الحد خلاف التحقيق، لأن الزوج الملاعن ينتفي عنه نسب الولد باللعان، فنفيه عنه حق مطابق للواقع، ولذا لا يتوارثان ومن قال كلامًا حقًا، فإنه لا يستوجب الحد بذلك، كما لو قال له: يا من نفاه زوج أمه أو يابن ملاعنة أو يابن من لوعنت، وإنما يجب الحد على قاذفه فيما لو قال له: أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة عشرة: في حكم ما لو قال لرجل يا زانية بتاء الفرق، أو قال لامرأة يا زاني بلا تاء. قال ابن قدامة في المغني. هو قذف صريح لكل منهما قال: واختار هذا أبو بكر، وهو مذهب الشافعي، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره، وهو قول أبي حنيفة، لأنه يحتمل أن يريد بقوله يا زانية أي يا علامة في الزنا. كما يقال للعالم: علامة، ولكثير الرواية ولكثير الحفظ حفظةن ولنا أن ما كان قذفًا لأحد الجنسين كان قذفًا للآخر كقوله زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعًا ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها، ولذلك لو قال للمرأة: يا شخصًا زانيًا، وللرجل: يا نسمة زانية كان قاذفًا.
وقولهم إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإنما كان اسمًا للفعل، إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة، كقولهم: حفظة للمبالغ في الحفظ ورواية للمبالغ في الرواية، وكذلك همزة لمزة وصرعة، ولأن كثيرًا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادًا باللفظ الصحيح. انتهى كلام صاحب المغني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي فيمن قال الذكر: يا زانية بصيغة التأنيث، أو قال لامرأة: يا زاني بصيغة التذكير، أنه يلزمه الحد.
وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون عاميًا، لا يعرف العربية أو يكون له علم باللغة العربية، فإن كان عاميًا فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه، وإن كان عالمًا باللغة، فاللغة يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصًا.
وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان رضي الله عنه:
منع النوم بالعشاء الهموم ** وخيال إذا تغار النجوم

من حبيب أصاب قلبك منه ** سقم فهو داخل مكتوم

ومراده بالحبيب أنثى بدليل قوله بعده:
لم تفتها شمس النهار بشيء ** غير أن الشباب ليس يدوم

وقول كثير:
لئن كان يرد الماء هيمان صاديًا ** إلى حبيًا إنها لحبيب

ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي:
ولكن ليلى أهلكتني بقولها ** نعم ثم ليلى الماطل المتبلح

يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح.
وقول عمرة بن حزام العذري:
وعفراء أرجى الناس عندي مودة ** وعفراء عني المعرض المتواني

أي الشخص المعرض.
وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف كقوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى ** وأنت خليفة ذاك الكمال

المسألة الثامنة عشرة: اعلم أن من رمى رجلًا قد ثبت عليه الزنى سابقًا أو امرأة، قد ثبت عليها الزنى سابقًا ببينة، أو إقرار، فلا حد عليه، لأنه صادق، ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنى، ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} الآية. فهو يدل بمفهومه أن من رمى غير محصنة لا حد عليه، وهو كذلك، ولكنه يلزم تعزيره، لأنه رماه بفاحشة ولم يثبتها، ولا يترك عرض من ثبت عليه الزنى سابقًا مباحًا لكل من شاء أن يرميه بالزنى دون عقوبة رادعة كما ترى.
المسألة التاسعة عشرة: أعلم أن الإنسان إذا كان مشركًا وزنى في شركة أو كان مجوسيًا، ونكح أمه أو ابنته مثلًا في حال كونه مجوسيًا، ثم أسلم بعد ذلك فرماه أحد بالزنى بعد إسلامه فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يقول له: يا من زنى في أيام شركة أو يا من نكح أمه مثلًا في أيامه مجوسيًا، وهذه الصورة ل حدّ فيها لأن صاحبها أخبر بحق والإسلام يجبّ ما قبله.
الثانية: أن يقول له: يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أمه بعد إسلامه، فعليه الحد كما لا يخفى.
الثالثة: أن يقول له: يا زاني، ولم يتعرض لكون ذلك قبل إسلامه، أو بعده فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه، فعليه الحد، وإن قال: أردت بذلك زناه في زمن شركه، فهل يقبل منه هذا التفسير، ويسقط عنه الحد، أو لا يقبل ذلك منه، ويقام عليه الحد. اختلف العلماء في ذلك، وممن قال بأنه يحد ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك: مالك وأصحابه، وصرح به الخرقي من الحنابلة. وقال ابن قدامة في المغني: لا حد عليه، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي: ومن قذف من كان مشركًا وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله، وحد القاذف إذا طلب المقذوف، وكذلك من كان عبدًا. انتهى.
المسألة العشرون: اعلم أن من قذف بنتًا غير بالغ بالزنى، أو قذف به ذكرًا غير بالغ فقد اختلف أهل العلم، هل يجب على القاذف الحد أو لا يجب عليه؟ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قاذفًا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف، لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة لكن مالك غلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لأن القاذف كشف ستره بطرف فلزمه الحد. قال ابن المنذر: أحمد في الجارية بنت تسع، يحد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرًا ضرب قاذفه، قال إسحاق: إذا قذف غلامًا يطأ مثله؛ فعليه الحد، والجارية إذا تسعًا مثل ذلك قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى. اه محل الغرض منه بلفظه.